جلس مشدوها وهو يشاهد برنامجا وثائقيا عقب نشرة الأخبار المسائية؛ يتحدث فيه المذيع عن أبشع جرائم القتل التي حصلت في هذا العام، وأكثرها غرابة، وعن بعض الجرائم التي تم كشف فاعلها فنال عقابا يليق بفعله، والبعض الآخر التي ما يزال منفذها مجهول الهوية.
يا إلهي، قال محدثا نفسه، ألهذا الحد من الوحشية وصل البشر! فوحوش الغاب تمسك عن هذه الأفعال اللا مبررة، فلو كان الحيوان نباتي المأكل، لا يقتل حيوانا آخرا، ولو كان من آكلي اللحوم، فهو لا يقتل حيوانا إلا بهدف توفير المأكل، فالذي لا أفسره ولا أجد له مبررا هو، لم يقتل إنسان إنسانا مثله؟ كهواية مثلا، أو اتخاذ القتل حرفة تكون مصدرا لكسب رزقه؟!
ما يسمعه الآن استحوذ على مشاعره كاملة؛ بات يبحلق في الشاشة الصغيرة خائفا من طرفه أن يرمش، أضحى المقت باديا على ملامحه. يتحدث المذيع عن قاتلة أنثى، قامت بمجموعة من جرائم القتل، ما يُذهب اللب أن ضحاياها من النساء فقط، قال المذيع: أن تتعرف إلى تفاصيل جريمة قتل واحدة لهذه القاتلة _ولنطلق عليها مجازا لقب(الظل) مثلا_ يغنيك عن معرفة تفاصيل لجرائم متعددة اقترفتها يداها، الفرق الوحيد بين كل جريمة وأخرى، هو أن الضحية في كل مرة هي امرأة جديدة.
أضاف المذيع قائلا: صحيح أن لا أحد تعرف إلى هوية المجرمة، أو أدلى حتى بمعلومة واحدة قد تساعد بالكشف عن هويتها، لكن البعض قال أنهم قد لمحوا ظلها؛ وصفوها بأنها: امرأة يزيد طولها عن المئة وسبعين سنتمترا، ذات شعر طويل أسود اللون، رشيقة الخطى، ترتدي ثوبا طويلا أسودا؛ تبدو من بعيد كظل متحرك. وأردف قائلا: جميع الضحايا هن من النساء في نهاية عقدهن الرابع، بدينات إلى حد ما، تكاد الجثث تتشابه بعد أن أُخفيت ملامحها بمادة ( التولوين) المذيبة للجلد. استرسل المذيع قائلا: حتى مسرح الجريمة هو عينه في كل مرة الوقت هو عند أول بزوغ للشمس، المكان هو إحدى غابات الصنوبر المنتشرة بكثرة في سيبيريا، حيث تشرق شمس الصباح على إمرأة تتأرجح متدلية من حبل يطوق عنقها مربوطا في أعلى شجرة ترتدي ثوبا أحمرا، سُل لسانها إلى خارج فيها وقد غُرس به عددا كبيرا من الدبابيس، ثبت على ثوب الضحية ورقة كتب عليها( لو لم أكن موجودة، لكان كل شيء أفضل).
بدا مضطربا، بات غير قادر على سماع المزيد من الوصف؛ أو النظر إلى الجسد المتدلي من بين أغصان شجرة الصنوبر المثبت كصورة على شاشة التلفاز؛ ثار فجأة ضاربا شاشة التلفاز بيده؛ فتناثر الزجاج في المكان، وتساقطت قطرات الدم أرضا إثر إصابة يده بجرح أدى إلى نزف شديد؛ نظر إلى الدم في طريقه نحو الأرض؛ زاده منظر الدم اضطرابا؛ دلف إلى غرفة نومه، فتح درجا اعتاد أن يضع فيه أدوات الإسعاف الأولي. توقف ناظرا إلى نفسه في المرآة، لم يشاهد صورة وجهه، ارتد راجعا للخلف فزعا، زاد بحلقة في المرآة، شاهد وجه أمه بجبروتها، بملامحها القاسية، بفيها العابس تعلوه طبقة من أحمر الشفاه، وعينيها الجاحظتين. رآها تحمل سيخا من الحديد مقتربة من جسده العاري، قهقه فجأة وحرك يده النازفة صوب فيه، لوّن شفتيه بدمه، زاد بقهقته وهو يزيح عن صدره قميصا يرتديه، فظهر صدر مليء بالنتوءات. من رحم قهقته ولدت ضحكة مجنونة وكلمات تمتم بها: (يجب أن تموتي ليصبح كل شيء أفضل). أغلق الدرج دون أن يستخرج أدوات الإسعاف لمداواة جرحه، وفتح درجا آخرا، أخرج منه ثوبا أسودا وباروكا لشعر طويل أسود، وحقيبة مغلقة ما أن فتحها حتى لمع نصل سكين فوق ثوب أحمر، وزجاجة تحوي سائلا لا لون له.
هذه المرة نحّى الثوب الأسود جانبا، واستبدله لأول مرة بالثوب الأحمر. من غرفة نومه خرج بهيأة سيدة في نهاية عقدها الرابع، ترتدي ثوبا أحمرا، عابسة الوجه؛ عاقدة العزم، تحمل حقيبة صغيرة، حريصة عليها كل الحرص. لأول مرة يرتدي الجاني ثوب المجني عليه، متوجها إلى مسرح الجريمة ليقوم بالدورين معا، مشى واثق الخطوة متأبطا حقيبته تحت جنح من الليل.
أشرقت شمس الصباح على جسد متدلى من بين أغصان شجرة صنوبر، مشوه المعالم، يرتدي ثوبا أحمرا كتب على ورقة مثبتة فوقه( الآن فقط، سيصبح العالم أفضل).
No comments:
Post a Comment